قال تعالى :_
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
أما الإطناب فنلحظه في قول هذه النملة:" يَا أَيُّهَا "، وقولها:" وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ".
أما قولها:" يَا أَيُّهَا " فقال سيبويه:” الألف والهاء لحقت { أيًّا } توكيدًا؛ فكأنك كررت { يا } مرتين، وصار الاسم تنبيهًا “.
وقال الزمخشري:” كرر النداء في القرآن بـ" يَا أَيُّهَا "، دون غيره؛ لأن فيه أوجهًا من التأكيد، وأسبابًا من المبالغة؛ منها:
ما في { يا } من التأكيد، والتنبيه، وما في { ها } من التنبيه، وما في التدرُّج من الإبهام في { أيّ } إلى التوضيح. والمقام يناسبه المبالغة، والتأكيد “.
وأما قولها:" وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" فهو تكميل لما قبله، جيء به، لرفع توهُّم غيره، ويسمَّى ذلك عند علماء البلاغة والبيان: احتراسًا؛ وذلك من نسبة الظلم إلى سليمان- عليه السلام- وكأن هذه النملة عرفت أن الأنبياء معصومون، فلا يقع منهم خطأ إلا على سبيل السهو. قال الرازي:” وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء، عليهم السلام “.
ومثل ذلك قوله تعالى:" وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ "(الفتح:25). أي: تصيبكم جناية كجناية العَرِّ؛ وهو الجرب.
وأما الإيجاز فنلحظه فيما جمعت هذه النملة في قولها من أجناس الكلام؛ فقد جمعت أحد عشر جنسًا:
النداء، والكناية، والتنبيه، والتسمية، والأمر، والقصص، والتحذير، والتخصيص، والتعميم، والإشارة، والعذر.
فالنـــداء: { يا }.
والكنايــة: { أيُّ }.
والتنبيــه: { ها }.
والتسميــة: { النمل }.
والأمـــــر: { ادخلوا }.
والقصـص: { مساكنكم }.
والتحذيــــر: { لا يحطمنكم }.
والتخصيـص: { سليمان }.
والتعميـــــــم: { جنوده }.
والإشـــــــــارة: { هم }.
والعــــــــذر: { لا يشعرون }.
فأدَّت هذه النملة بذلك خمسة حقوق:
1_ حق الله تعالى 2_ وحق رسوله
3_ وحقـــــها 4_ وحق رعيتها
5_ وحق الجنود.
فأما حق الله تعالى فإنها استُرعيت على النمل، فقامت بحقهم. وأما حق سليمان- عليه السلام- فقد نبَّهته على النمل.
وأما حقها فهو إسقاطها حق الله تعالى عن الجنود في نصحهم.
وأما حق الرعية فهو نصحها لهم؛ ليدخلوا مساكنهم.
وأما حق الجنود فهو إعلامها إياهم.
وجميع الخلق، أن من استرعاه الله تعالى رعيَّة، وجب عليه حفظها، والذبِّ عنها، وهو داخل في الخبر المشهور:” كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته “. هذا من جهة المعنى.
وأما من جهة المبنى ( اللفظ ) فإن كلمة { نملة } من الكلمات، التي يجوز فيها أن تكون مؤنثة، وأن تكون مذكرة؛ وإنما أنث لفظها للفرق بين الواحد، والجمع من هذا الجنس. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام:” لا تضحِّي بعوراءَ، ولا عجفاءَ، ولا عمياءَ “ كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة، ولا يعني الإناث من الأنعام خاصة !
وأما تنكير { نملة } ففيه دلالة على البعضيَّة، والعموم. أي: قالت نملة من هذا النمل. وهذا يعني أن كل نملة مسؤولة عن جماعة النمل.
وأما قولها:" ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ " ففيه إيجاز بالحذف بليغ؛ لأن أصله: ادخلوا في مساكنكم، فحذف منه { في }، تنبيهًا على السرعة في الدخول.
ولفعل { دخل } استعمالات دقيقة في اللغة والقرآن، تخفى حتى على الكثير من علماء اللغة والتفسير، لخصها الأستاذ محمد إسماعيل عتوك في مقالته النقدية ( من أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم ).
وأما قولها:" لَا يَحْطِمَنَّكُمْ "، بنون مشددة أو خفيفة، فظاهره النفيُ؛ ولكن معناه على النهي. والنهيُ إذا جاء على صورة النفي، كان أبلغ من النهي الصريح. وفيه تنبيه على أن من يسير في الطريق، لا يلزمه التحرُّز؛ وإنما يلزم من كان في الطريق.
خامسًا- وفي التعبير بـ" لَا يَحْطِمَنَّكُمْ "، دون غيره من الألفاظ، دلالة دقيقة على المعنى المراد، لا يمكن لأيِّ لفظ أن يعبِّر عنه. ويبيِّن ذلك أن الحَطْمَ في اللغة هو الهَشْمُ، مع اختصاصه بما هو يابس، أو صلب. والحطمة من أسماء النار؛ لأنها تحطم ما يلقى فيها.
وعن بعض العرب: قد تحطمت الأرض يبسًا، فأنشبوا فيها المخالب، وهي المناجل. أي: تكسرت زروع الأرض، وتفتتت لفرط يبسها، فجزوها.
ومن هنا نجد القرآن الكريم يستعمل لفظ الحطم للزرع اليابس المتكسر. قال تعالى:
" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ "(الزمر: 21)
وقد ثبت للعلماء أن الزرع يحتوي في ساقه وورقه على نسب كبيرة من الزجاج؛ ولهذا نراه يتكسر حين يصفر، كما يتكسر الزجاج. وكذلك النمل، فقد ثبت أن جسم النملة يحتوي على نسبة كبيرة من الزجاج، وأنه مغلف بغلاف صلب جداً قابل للتحطم؛ كالزرع اليابس، والزجاج الصلب. وذلك يشكل إعجازًا علميًّا من إعجاز القرآن إلى جانب إعجازه البياني، الذي يسمو فوق كل بيان!
وبعد.. فقد أدركت هذه النملة الضعيفة فخامة ملك سليمان، وأحسَّت بصوت جنوده قبل وصولهم إلى وادي النمل، فنادت قومها، وأمرتهم بالدخول في مساكنهم أمر من يعقل، وصدر من النمل الامتثال لأمرها، فأتت بأحسن ما يمكن أن يؤتى به في قولها من الحكم، وأغربه، وأفصحه، وأجمعه للمعاني؛ ولهذا تبسم سليمان عليه السلام حين سمع قولها، وروي عنه- عليه السلام- أنه قال لها: لم قلت للنمل:" ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ "؟ أخفت عليهم من ظلمنا ؟! فقالت: لا، ولكن خفت أن يفتتنوا بما يرَوْا من ملكك، فيشغلهم ذلك عن طاعة الله !
وفي حديث سليمان- عليه السلام- مع النملة، وحديثها مع قومها إعجاز آخر من إعجاز القرآن. فقد أثبت العلماء أن للنمل لغته الخاصة، التي يتفاهم بها، كما أثبت أن النملة المؤنثة هي التي ترعى قومها، وتتولى الدفاع عنهم، وتنبههم لأي خطر قادم، أو مفاجىء
وليس للذكر أي دور في ذلك؛ لأن مهمته مقتصرة على تلقيح الأنثى العذراء مرة واحدة في حياته، ثم يختفي.
بعض أسرار النمل :_
وأسرار النمل وعجائبه كثيرة، ليس هذا المقال موضع بسطها، ويكفي أن أشير إلى أن النمل- على ضعفه-
مخلوق قويُّ الحسِّ ..... شمَّامٌ جدًّا ..... نشيط جدًّا ..... يتميز بذكاء خارق .....
وقبل تخزين الحب يقوم يشق الحبة من القمح قطعتين لئلا تنبت .....
ويشق الحبة من الكزبرة أربع قطع .. لأنها إذا قطعت قطعتين أنبتت !!! .....
والحب الذي لا يستطيع شقه، يقوم بنشره تحت أشعة الشمس بصفة دورية ومنظمة، حتى لا يصيبه البلل، أو الرطوبة فينبت !!!!
ويأكل في عامه بعض ما يجمع، ويدَّخر الباقي عدة أعوام، وحياته مثل حياة النحل دقيقة التنظيم، تتنوع فيها الوظائف، وتؤدى جميعها بإتقان رائع، يعجز البشر غالبًا عن إتباع مثله، على الرغم مما أوتوا من عقل راق، وإدراك عال.
بقي أن تعلم أن النمل يضرب المثل به في الضعف والقوة والكثرة، فمن أمثال العرب قولهم:
” أضعف وأكثر وأقوى من النمل “.
وحكي أن رجلاً قال لبعض الملوك: جعل الله قوَّتك مثل قوة النمل، فأنكر عليه ذلك، فقال: ليس من الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه إلا النملة، وقد أهلك الله تعالى بالنمل أمة من الأمم، وهي جرهم. ومن أمثالهم أيضًا قولهم:” أحرص من نملة، وأروى من نملة “ لأنها تكون في الفلوات، فلا تشرب ماء.
فتأمل حكمة الله تعالى في أضعف خلقه، وردِّدْ مع سليمان- عليه السلام- قوله:" رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ".. والحمد لله رب العالمين !
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
تنبيه : المرجوا عدم نسخ الموضوع بدون ذكر مصدره المرفق بالرابط المباشر للموضوع الأصلي وإسم المدونة وشكرا
1 التعليقات:
جزاكم الله خيرا